بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني
(أبواب تطهير النجاسة، وأبواب الأواني)
محاضرة [ I ]
1- دراسة باب آسار البهائم (تكملة) وباب سؤر الهر وباب اعتبار الولوغ وباب الحت والفرض والعفو عن الأثر بعدهما
أبواب تطهير النّجاسة: باب اعتبار العدد في الولوغ
أي: في ولوغ الكلب، واعتبار العدد، يعني: في غسل الإناء الذي يشرب منه أو يَلَغ فيه.
قال ابن تيمية (الجد): عن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا شرب الكلب في إناء أحدِكم، فلْيغسلْه سبْعاً))، متفق عليه -يعني: رواه الشيخان وأحمد. ولأحمد ومسلم: ((طهور إناء أحدِكم إذا ولغ فيه الكلب: أن يغسله سبْع مرّات أُولاهنّ بالتراب)).
وعن عبد الله بن مغفل، قال: ((أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقتْل الكلاب)). وهذا الحديث قد أشرنا إليه سابقاً، وبيّنّا أنّ الأمر بالغَسل ليس مُرتبطاً بقتل الكلاب. ثم قال: ((أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقتْل الكلاب، ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب؟ ثم رخّص في كلْب الصيد، وكلْب الغنم، وقال: إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبْع مرات، وعفِّروه الثامنة بالتراب))، رواه الجماعة -أي: أصحاب الكتب الستّة وأحمد، إلا الترمذي والبخاري، فإنهما لم يرويا هذا الحديث. وفي رواية لمسلم: ((ورخّص في كلب الغنم والصّيد والزرع)).
الحديثان يدلان على أنه يُغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب سبْع مرات -وقد تقدّم ذِكْر الخلاف في ذلك، وبيان ما هو الحق في باب أسآر البهائم، وقد تعرّضنا له قبل قليل-.
وقوله: ((أُولاهنّ بالتراب)): لفظ الترمذي، والبزار: ((أولاهن أو أُخْراهُنّ)). ولأبي داود: ((السابعة بالتراب)). وفي رواية صحيحة للشافعي: ((أُولاهنّ أو أُخراهن بالتراب)). وفي رواية لأبي عبيد القاسم بن سلام في كتاب "الطهور"، له: ((إذا ولغ الكلب في الإناء، غُسل سبْع مرات أُولاهن أو إحداهنّ بالتراب)). وعند الدارقطني بلفظ: ((إحداهنّ)) أيضاً، وإسناده ضعيف؛ فيه الجارود بن يزيد، وهو متروك.
والذي في حديث عبد الله بن مغفل -المذكور في الباب بلفظ: ((وعفِّروه الثامنة بالتراب))- أصحّ من رواية: ((إحداهنّ)). قال في "البدر المنير": "بإجماعهم"، يعني: أجمعوا على أنّ هذا أصحّ. وقال ابن مندة: "إسناده مُجمَع على صحّته، وهي زيادة ثقة" -يعني: زاد على سبْع-؛ فتعيّن المصير إليها. وقد ألزم الطحاوي الشافعية بذلك. واعتذار :الشافعي أنه لم يقف على صحة هذا الحديث، لا ينفع الشافعي؛ فقد وقف على صحّته غيرُه، لا سيما مع وصيّته بأن الحديث إذا صحّ فهو مذهبه؛ فتعيّن حمْل المطلَق على المقيَّد، يعني: مطلق الأحاديث التي أطلقت السبع، وإحداهن بالتراب.
وأما قول ابن عبد البّر: لا أعلم أحداً أفتى بأن غسلة التراب غير الغسلات السّبع بالماء غير الحسن، فلا يقدح ذلك في صحّة الحديث، وتحتّم العمل به. وأيضاً، فقد أفتى بذلك: أحمد بن حنبل وغيره. وروي عن مالك أيضاً؛ ذكر ذلك الحافظ ابن حجر. وجواب البيهقي عن ذلك بأن أبا هريرة أحفظ من غيره، فروايته أرجح، وليس فيها هذه الزيادة. جواب البيهقي هذا مردود بأن في حديث عبد الله بن مغفل زيادة، وهو مجمع على صحته؛ وزيادة الثقة يتعيّن المصير إليها إذا لم تقع منافية. وقد خالفت الحنفية والعترة في وجوب التتريب، كما خالفوا في التسبيع -كما سبق أن ذكرنا-، ووافقهم ها هنا المالكية، مع إيجابهم التسبيع على المشهور عندهم، قالوا: لأنّ التتريب لم يقع في رواية مالك. قال القرافي منهم: "قد صحت فيه الأحاديث؛ فالعجب منهم كيف لم يقولوا بها؟"، وهي نفس الحجة التي وجّهوها إلى الشافعية عندما شكك الشافعي في صحّة حديث عبد الله بن مغفل، وقالوا له صحّ. قال القرافي: "فالعجب منهم كيف لم يقولوا بها؟".
وقد اعتذر القائلون بأنّ التتريب غير واجب، بأن رواية التتريب مضطربة لأنها ذُكرت بلفظ: ((أُولاهنّ))، وبلفظ: ((أُخراهن))، وبلفظ: ((إحداهن)). وفي رواية: ((السابعة))، وفي رواية: ((الثامنة))؛ والاضطراب هذا يوجب الاطّراح، يعني: ترك الحديث. وأجيب بأن المقصود: حصول التتريب في مرّة من المرات، وبأنّ ((إحداهن)) مبهمة و((أُولاهن)) مُعيّنة، وكذلك ((أُخراهن))، و((السابعة))، و((الثامنة)). ومقتضى حمْل المطلق على المقيّد: أن تجعل المبهمة على إحدى المرّات المعيَّنة.
ورواية: ((أولاهنّ)) أرجح من حيث الأكثريّة والأحفظيّة ومن حيث المعنى، لأن تتريب الآخر يقتضي الاحتياج إلى غسلة أخرى لتنظيفه. وقد نص الشافعي على أنّ الأولى أوْلى -كذا في "الفتح"-؛ وعلى هذا، إذا كان هناك ترجيح فليس هناك اضطراب، ورُجِّحت الأولى. وقد وقع الخلاف: هل يكون التتريب في الغسْلات السبْع أو خارجاً عنها؟ وظاهر حديث عبد الله بن مغفل أنه خارج عنها، وهو أرجح من غيره، لِمَا عرفت في ما تقدّم.